الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }

افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجُمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإِنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإِسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذاراً لهم في المجادلةليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حَيِي عن بينة } الأنفال 42. ولذلك اجتلبت صيغة الحصر بــــ { إنما } ، أي ما أعظكم إلا بواحدة، طيّاً لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريباً لشقة الخلاف بيننا وبينكم. وهو قصر إضافي، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة، أي إن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقد كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب أمَا ينتهي ابن أخيك عن شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول والخلاصة أو والفذلكة كذا. وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهّموا الإِقبال على هذا النظر الذي عقدوا نياتهم على رفضه، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهداً ولا يضيع عليهم زمناً فَلْيتأملوا فيه قليلاً ثم يقضوا قضاءهم، والكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به. والوعظ كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده. وتقدم عند قوله تعالىوكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء } في سورة الأعراف 145، وقولهيعظكم اللَّه } في سورة النور 17. و { واحدة } صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة. والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال وإيجازاً في نظم الكلام واستنزالاً لطائر نفورهم وإعراضهم. وبنيت هذه الواحدة بقوله أن تقوموا لله مثنى وفرادى } إلى آخره، فالمصدر المنسبك من { أن } والفعل في موضع البدل من «واحدة»، أو قُل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق. وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمِين فلا تَخُضْ في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا. والقيام في قوله { أن تقوموا } مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالىوأن تقوموا لليتامى بالقسط } النساء 127. واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالىوقال إنما اتخذتم من دون اللَّه أوثاناً مودّةً بينكم } العنكبوت 25، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته. وكلمة { مثنى } معدول بها عن قولهم اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريراً يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يُعدّ بعدد اثنين منه مرصفاً على نحو عدده.

السابقالتالي
2 3 4