الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتابَ والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لما تقدم من كفرهم. وجملة { إذا تتلى } معطوفة على جملةويوم نحشرهم جميعاً } سبأ 40 عطف القصة على القصة. وضمير { عليهم } عائد إلىالذين كفروا } سبأ 31 وهم المشركون من أهل مكة. وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدةً بالزمن الذي تتلى عليهم فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأنه وقت ظهور حجة صدقه لكل عاقل متبصر. وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقه قُدّم الظرف على عامله والتشوق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح. والمراد بالآيات البينات آيات القرآن، ووصفها بالبيّنات لأجل ظهور أنها من عند الله لإِعجازها إياهم عن معارضتها، ولِما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على صدق ما تدعو إليه، فهي محفوفة بالبيان بألفاظها ومعَانيها. وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو تالي آيات الله، فالإِشارة في قولهم { ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم } إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. واستحضروه بطريق الإِشارة دون الاسم إفادة لحضوره مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فُصلت وقراءِته على عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون. وابتدأوا بالطعن في التالي لأنه الغرض الذي يرمون إليه، وأثبتوا له إرادة صدّهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضُهم حميةَ بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلا حَقّاً ولا يفعلون إلا صواباً وحكمة، فلا جرم أن يكون مريد الصدّ عنها محاولاً الباطل وكاذباً في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قولٌ غير مطابق للواقع فهو الكذب. وفعل { كان } في قولهم { عمّا كان يعبد آباؤكم } إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة. وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيغار لصدورهم ليتألبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزدادوا تمسكاً بدينهم وقد قصروا الرسول عليه الصلاة والسلام على صفة إرادة صدهم قصراً إضافياً، أي إلا رجل صادق فما هو برسول. وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلوّ بأنه كذب مفترىً وإعادة فعل القول للاهتمام بحكاية قولهم لفظاعته وكذلك إعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعاً لهما في نفس السامعين فجملة { وقالوا ما هذا إلا إفك } عطف على جملة { قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم } ، فالفعلان مشتركان في الظرف.

السابقالتالي
2