الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ }

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَلاَ بِٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ }. كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإِسلام وأخَذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة، وقد كانوا قبل ظهور الإِسلام لاَهِينَ عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسماعهم دعوة الإِسلام اضطربت أقوالهم فقالواما أنزل الله على بشر من شيء } الأنعام 91، وقالوا غيرَ ذلك، فمن ذلك أنهم لجأَوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليَتَلقَّوا منهم ملقَّنَات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتب يُمْلُون عليهم كلما لَقُوهم ما عساهم أن يُمَوِّهُوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية، فمرة يقولونلولا أوتي مثل ما أوتي موسى } القصص 48، ومرة يقولونولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } الإسراء 93، وكثيراً ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولاً إليهم مختاراً من عند الله فقالواما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } الفرقان 7 إلى قولههل كنت إلا بشراً رسولاً } الإسراء 93، وهم لا يُحاجُّون بذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإِبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمداً ما هو بِدْعٌ من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجَّهم بقولهقل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } القصص 49 الآية. فلما لما يجدوا سبيلاً للمكابرة في مساواة حاله بحال الرسل الأولين وأوَوْا إلى مأْوى الشرك الصريح فلجأُوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه }. وقد كان القرآن حاجَّهم بأنهم كفروابما أوتي موسى من قبل } كما في سورة القصص 48، أي كفر أمثالهم من عَبدة الأصنام وهم قِبط مصر بما أوتي موسى وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل. فهذا وجه قولهم { ولا بالذي بين يديه } لأنهم لم يكونوا مدْعُوِّين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإِلزام الجدلي. وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملةويقولون متى هذا الوعد } سبأ 29. والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها بادٍ لكل مَنْ يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح. وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها. وجيء بحرف { لن } لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييساً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الطمع في إيمانهم به.

السابقالتالي
2 3 4