الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } * { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ }

كانت قصة سبا قد ضُربت مثلاً وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالىأولم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء } القصص 57 وقولهلإيلاف قريش } قريش 1 إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإِشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهَمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالاً مناسبته بينة وهو أيضاً عَوْد إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضاً فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإِشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه. وافتتح الكلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات المتتابعة بكلمة { قل } فأُمر بالقول تجديداً لِمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن. والأمر في قوله { ادعوا } مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استَمِروا على دعائكم. و { الذين زعمتم من دون الله } معناه زعمتموهم أرباباً، فحذف مفعولا الزعم أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصداً لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي { من دون الله }. و { من دون الله } صفة لمحذوف تقديره زعمتم أولياء. ومعنى { من دون الله } أنهم مبتدأُون من جانب غيرِ جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة. وجملة { لا يملكون } مبينة لما في جملة { ادعوا الذين زعمتم } من التخطئة. وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض. والذّرة بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالىوما يعزب عن ربك من مثقال ذرة } في سورة يونس 61. والمراد بالسماوات والأرض جوهرهُما وعينُهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدَّعِي المشركون فيه ملكاً لآلهتهم، فالمثقال إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازاً مرسلاً، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازاً، وتقدم المثقال عند قولهوإن كان مثقال حبة من خردل } في سورة الأنبياء 47. ومثقال الذرة ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئاً من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به. وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض، أي شِرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازاً لأنه محل الوفاق.

السابقالتالي
2 3 4 5