الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ }

بيان لجملةوهو الحكيم الخبير } سبأ 1 لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقانُ العمل بالعلم. وخص بالذكر في متعلِّق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يَدِبّ على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دَابًّا وجائلاً فيهما، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدبّ عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها. والولوج الدخول والسلوكُ مثل ولُوج ماء المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يُقبرون في الأرض وأحوالهم. والذي ينزل من السماء المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواصف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء، وعروجُ الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالىتعرج الملائكة والروح إليه } المعارج 4. واعلم أن كلمتي { يلج } و { يخرج } أوضح ما يُعَبَّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي { ينزل } و { يعرج } أوضح ما يعبَّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالةً مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإِنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقتها بكتابي «أصول الإنشاء والخطابة» بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد. ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلم الطيّب أتبع ذلك بقوله { وهو الرحيم الغفور } أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.