الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }

و { يعملون له ما يشاء } جملة مبينة لجملةيعمل بين يديه } سبأ 12. و { من محاريب } بيان لــــ { ما يشاء }. والمحاريب جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص، قال تعالىفنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } وتقدم في سورة آل عمران 39. وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالىوهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } في سورة ص 21. وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته، فتسمية ذلك محراباً تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدىء فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف. واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية، والمظنون أنه حدث في أولها في حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة، وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محراباً، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة، قال عُمر بن أبي ربيعة
دُمية عند راهب قسيس صوَروها في مذابح المحراب   
والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية. وما حكي عن أنس بن مالك إن صحّ فإنما يُعنى به بيت للصلاة خاص. ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفَراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محرابُ المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذٍ مطلقاً على مكان العبادة. ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرَّب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه صورَة محراب منفصل يسمونه محراب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو علامة على تحري موقفه. والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيراً، ثم وسعوها شيئاً فشيئاً حتى صيروها في صورة نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإِمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه، وذلك في مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب " خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ".

السابقالتالي
2 3