الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } * { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفيَّة. فقال ابن عطية ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً. وقال الزمخشري عند قولهإن في ذلك لآية لكل عبد منيب } سبأ 9 لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كلّ شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به ا هــــ. فقال الطيبي فيه إشارة إلى بيان نظم هذه الآية بقوله { ولقد آتينا داود منا فضلاً } لأنه كالتخلص منه إليه، لأنه من المنيبين المتفكرين في آيات الله، قال تعالىواذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } ص 17 ا هــــ. يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثُل في المنيبين بما اشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعياً غليظاً إلى أن اصطفاه الله نبيئاً وملكاً صالحاً مُصْلِحاً لأمة عظيمة، فهو مَثَل المنيبين كما قال تعالى { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } وقالفاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب } ص 24، فلإِنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله. وفي ذكر فضله عبرة للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضاً بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله، وفي هذا إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإِيماء أوضح في قوله تعالىاصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب } الآية في سورة ص 17. وسمَّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصاً، والوجه أن يسميه استطراداً أو اعتراضاً وإن كان طويلاً، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعدما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالىولقد صدق عليهم إبليس ظنه } سبأ 20. وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالىوآتينا داود زبوراً } في سورة النساء 163 وعند قولهومن ذريته داود } في سورة الأنعام 84. و مِنْ في قوله { منا } ابتدائية متعلقة بــــ { آتينا } ، أي من لدنّا ومن عندنا، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود، كقوله تعالىرزقاً من لدنا } القصص 57. وتنكير { فضلاً } لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل المُلك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سَعَة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطولَ العمر في الصلاح وغير ذلك. وجملة { يا جبال أوبي معه } مقول قول محذوف، وحذف القول استعمال شائع، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة { آتينا داود منا فضلاً }.

السابقالتالي
2