الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }

انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدىء التعريض بهم من قوله تعالىوما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الأحزاب 53 إلى قوله تعالىعظيماً } الأحزاب 53، ثم من قولهإن الذين يؤذون الله ورسوله } الأحزاب 57 إلى قولهذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } الأحزاب 59. وصرح هنا بما كُني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لُفَّ لِفَّهُم. و { الذين في قلوبهم مرض } قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإِيمان. و { المرجفون في المدينة } هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد، قاله أبو رزين. وجملة { لئن لم ينته } استئناف ابتدائي. وحذف مفعول { ينته } لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين. والإِرجاف إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإِشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدَّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفَان وهو الاضطراب والتزلزل. فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإِرجاف هنا أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون هُزموا أو أَسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإِيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهموإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } في سورة النساء 83. فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه { لنغرينك بهم } لا يساعد أن فيهم مؤمنين. واللام في { لئن } موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير والله لئن لم ينته. واللام في { لنغرينك } لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط. والإِغراء الحثّ والتحريض على فعل. ويتعدَّى فعله بحرف على وبالباء، والأكثر أن تعديته بــــ على تفيد حثاً على الفعل مطلقاً في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثاً على الإِيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء، أي واقعاً عليها. فلا يقال أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه. فالمعنى لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله { أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.

السابقالتالي
2 3