الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }

استئناف بياني ناشىء عن قولهمن ذا الذي يعصمكم من الله } الأحزاب 17 لأن ذلك يثير سؤالاً يهجس في نفوسهم أنهم يُخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان، فأُمر أن يقول لهم { قد يعلم الله المعوِّقين منكم } أي فالله ينبىء رسوله بكم بأن فِعْل أولئك تعويق للمؤمنين. وقد جعل هذا الاستئناف تخلصاً لذكر فريق آخر مِن المعوّقين. و { قد } مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشىء عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب. وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر. ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود «اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالىوما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جُلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } فصلت 22 فللتوكيد بحرف التحقيق موقع. ودخول { قد } على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة { قد، } ومثله إفادة التكثير، وتقدم ذلك عند قوله تعالىقد نرى تقلب وجهك في السماء } في سورة البقرة 144، وقوله تعالىقد يعلم ما أنتم عليه } في آخر سورة النور 64. والمعوِّق اسم فاعل من عَوّق الدال على شدة حصول العَوْق. يقال عاقه عن كذا، إذا منعه وثبطه عن شيء، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل قطَّع الحبل، إذا قطعه قطعاً كبيرة،وغلَّقَت الأبواب } يوسف 23، أي أحكمت غلقها. ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل مَوَّت المال، إذ كثر الموت في الإبل، وطوَّف فلان، إذا أكثر الطواف، والمعنى يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال. والخطاب بقوله { منكم } للمنافقين الذين خوطبوا بقولهلن ينفعكم الفرار } الأحزاب 16. ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم { هلمّ إلينا هم المعوِّقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد، كقوله
إلى الملك القرْم وابنِ الهمام   
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق، فالمراد الأخوة في الرأي والدين. وذلك أن عبد الله بن أُبَيّ، ومعتِّب بن قُشير، ومن معهما من الذين انخذلوا عن جيش المسلمين يوم أُحُد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم { هلمّ إلينا } أي ارجعوا إلينا. قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأس أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان ومن معه تمثيلاً بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم.

السابقالتالي
2 3 4 5