الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } * { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً }

عطف علىوإذْ زاغتْ الأبصار } الأحزاب 10 فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب. وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم { ما وَعَدَنا الله ورسوله } الخ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعونإنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون } الشعراء 27. والغرور ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالىلا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد } في سورة آل عمران 196، وقوله تعالىزُخْرف القول غروراً } في سورة الأنعام 112. والمعنى أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر. { والذين في قلوبهم مرض } هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه. والمراد بالطائفة الذين قالوا { يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا } عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه. كذا قال السدي. وقال الأكثر هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ
رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسمو إلى الخيرات منقطع القرين   
في جماعة من منافقي قومه. والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم. وقوله { لا مقام لكم } قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي الوجود. وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي محلّ الإقامة. والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد. و { يثرب } اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيدة يثرب اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض. سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح. وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة. وفي قوله { يا أهل يثرب لا مقام لكم } محسِّنٌ بديعيّ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن.

السابقالتالي
2