الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }

لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قولهومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } السجدة 22، استطرد إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل. فهذه الجملة وما بعدها إلى قولهفيما كانوا فيه يختلفون } السجدة 25 معترضات. وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع { فلا تكن في مرية من لقائه } على الخبر الذي قبله. وأريد بقوله { ءاتينا موسى الكتاب } أرسلنا موسى، فذِكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر { الكتاب } للتنويه بشأن موسى وليس داخلاً في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذِكر { الكتاب }. وجملة { فلا تكن في مرية من لقائه } معترضة وهو اعتراض بالفاء، ومثله وارد كثيراً في الكلام كما تقدم عند قوله تعالىإن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } الآية في سورة النساء 135. ويأتي عند قوله تعالىهذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } في سورة ص 57. والمرية الشك والتردد. وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة، أي لا يكن الشك محيطاً بك ومتمكناً منك، أي لا تكن ممترياً في أنك مثله سينالك ما نالَه من قومه. والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقولهفلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } هود 109، وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل. واللقاء اسم مصدر لَقِيَ وهو الغالب في الاستعمال دون لِقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء مصادفة فاعل هذا الفعل مفعولَه، ويطلق مجازاً على الإصابة كما يقال لقيت عناء، ولقيت عَرق القِربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جارياً على التشبيه البليغ كقوله هو البدر، أي من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالىولقد استُهْزِىء برُسُل من قبلك }

السابقالتالي
2