الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

استئناف ناشىء عن قولهأم يقولون افتراه } الآية السجدة 3، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله، بما أفادت اسمية جملةبل هم بلقاء ربهم كافرون } السجدة 10 من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذُكرت أوصافهم هنا. والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله { الذين إذا ذُكِّروا بها } بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامِعهم. ومفاد { إنما } قصر إضافي، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيراً بما سبق لهم سماعه لم يتريّثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالواأإذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإنَّا لفي خلق جديد } السجدة 10، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر. وأوثرت صيغة المضارع في { إنما يؤمن } لما تشعر به من أنهم يتجدّدون في الإيمان ويزدادون يقيناً وقتاً فوقتاً، كما تقدم في قوله تعالىالله يستهزىء بهم } في سورة البقرة 15، وإلاَّ فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثرُ بحكاية حالهم في الكلام المتداوَل لولا هذه الخصوصية، ولهذا عُرِّفوا بالموصولية والصلةِ الدالّ معناها على أنهم راسخون في الإيمان، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يُفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيراًفإن الذكرى تنفع المؤمنين } الذاريات 55. وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عُرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا، وليست تقتضي أن من لم يسْجدوا عند سماع الآيات ولم يسبّحوا بحمد ربّهم من المؤمنين ليسوا ممّن يؤمنون، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا. جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنَّكاً، أي عالماً يجعل شُقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث. قال مالك رحمه الله قلت لأُمي أذهبُ فأكتبُ العلم، فقالت تعالَ فالبسْ ثياب العلم. فألبستني ثياباً مشمّرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها. والخرور الهُوِيّ من علوّ إلى سفل. والسجود وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع. وانتصب { سُجداً } على الحال المبينة للقصد من { خرُّوا، } أي سجداً لله وشكراً له على ما حبَاهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله { وسبَّحوا بحمد ربهم }.

السابقالتالي
2 3