الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }

كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارةً على أنه غير واقع. قال تعالىويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يونس 48 وقالوما يُدْرِيك لعلّ السَّاعة قريبٌ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } الشورى 17، 18، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله. فجملة { إن الله عنده علم الساعة } مستأنفة استئنافاً بيانياً لوقوعها جواباً عن سؤال مقدَّر في نفوس الناس. والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليماً للأمة. وقال الواحدي والبغوي إن رجلاً من محارب خصفة من أهل البادية سماه في «الكشاف» الحارث بن عمرو ووقع في «تفسير القرطبي» وفي «أسباب النزول» للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال متى الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟ وماذا أكسب غداً؟ وبأي أرض أموت؟، فنزلت هذه الآية، ولا يُدرى سند هذا. ونُسب إلى عكرمة ومقاتل، ولو صح لم يكن منافياً لاعتبار هذه الجملة استئنافاً بيانياً فإنه مقتضى السياق. وقد أفاد التأكيد بحرف { إن } تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة، وذلك يتضمن تأكيد وقوعها. وفي كلمة { عنده } إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار. وتقديم { عند } وهو ظرف مسند على المسند إليه يُفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي. وجملة { وينزل الغيث } عطف على جملة الخبر. والتقدير وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث. والمقصود أيضاً عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نُظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة. وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض. ولا التفاتَ إلى من قدروا { ينزل الغيث } ، بتقدير أنْ } المصدرية على طريقة قول طرفة
ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى   
للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة. وإذ قد جاء هذا نسقاً في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلاً خبراً عن مسند إليه مقدم مفيداً للاختصاص بالقرينة فالمعنى وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت. وعطف عليه { ويعلم ما في الأرحام } أي ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكراً أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق. وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال. والمعنى ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيداً للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى { والله يقدّر الليل والنهار }.

السابقالتالي
2