الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ }

إن لم يكن { يا أيها الناس } خطاباً خاصاً بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بُعد السائرين عنها، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقَّب بما يصلح لِكِلا الفريقين، وإن كان الخطاب خاصاً بالمشركين جرْياً على ما روي عن ابن عباس أن { يا أيها الناس } خطاب لأهل مكة، فالمراد بالتقوى الإقلاع عن الشرك. وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخُطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيّأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة، وإن لاصطياد الحكماء فُرصاً يحرصون على عدم إضاعتها، وأحسن مُثُلها قول الحريري في «المقامة الحادية عشرة» «فلما ألحدوا الميْت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رُباوة، متخصر بهراوة، فقال لِمثْل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا يأْيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون» الخ... فأما القلوب القاسية، والنفوس المتعاصية، فلن تأسُوَها آسية. ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافاً لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة. والتقوى تبتدىء من الاعتراف بوجود الخالق ووحدانيته وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال. وتقدم تفصيلها عند قوله تعالىهدىً للمتقين } في سورة البقرة 2 وتقدم نظير هذا في سورة الحج 32. وخشية اليوم الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته، فانتصب { يوماً } على المفعول به. والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالىوقال الذين لا يرجون لقاءنا } الفرقان 21. وجملة { لا يَجْزِي والدٌ عن ولده } الخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور بــــفي توسعاً بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقولهواتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } في سورة البقرة 48. وجَزى إذا عدي بـ { عن } فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه، ولذلك يقال للمتقاضي المتجازي. وجملة { ولا مولود } الخ عطف على الصفة و { مولود } مبتدأ. و { هو } ضمير فصل. و { جاز } خبر المبتدأ. وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهم فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي، قال تعالىيوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه } الآية عبس 34 35. وابتدىء بـ { الوالد } لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصاً من سوء إلا فعله. ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالىواتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً } في سورة البقرة 123، أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين، وربما كان الأب مسلماً والولد كافراً وربما كان العكس، وقد يتوهم بعضُ الكافرين حين تُداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يُدلّ به على رَبّ هذا الدين، وقد كان قاراً في نفوس العرب التعويل على المولَى والنصير تعويلاً على أن الحَمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم.

السابقالتالي
2 3