الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } * { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيرهُ أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعْراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئاً كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها. ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله { ترونها } و { بكم } للمشركين، وقد تقدم في سورة الرعد 2 قولهالله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } وتقدم في أول سورة النحل 15 قولهوألقى في الأرض رواسيَ أن تَميدَ بكم } والمعنى خوفَ أن تميد بكم أو لئلا تُميدكم كما بين هنالك. وتقدم في سورة البقرة 164 قولهوبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح } وقولهأنزلنا من السماء ماء } هو نظير قوله في سورة البقرة 164وما أنزل الله من السماء من ماء } وقوله في سورة الرعد 17أنزل من السماء ماء فسالتْ أوْديَةٌ } والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله { وأنزلنا } للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دوراناً عند الناس. وضمير { فيها } عائد إلى الأرض. والزوج الصنف، وتقدم في قوله تعالىفأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى } في طه 53 وقولهوأنبتت من كل زوج بَهيج } في سورة الحج 5. والكريم النفيس في نوعه، وتقدم عند قوله تعالىإنِّي ألقِيَ إليَّ كتابٌ كريم } في سورة النمل 29. وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله { أن تميد بكم وبَث فيها من كل دابة } فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوأنسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمَر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شملَ الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة. وجملة { هذا خلق الله } إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله { خلق السماوات } إلى قوله { من كل زوج كريم }. والإتيان به مفرداً بتأويل المذكور. والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله { خلق الله } التفاتاً لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله { هذا خلق الله } وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله { ماذا خلق الذين من دونه } التفاتاً لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله { خَلق الله } ويجوز أن تكون الرؤية من قوله { فأروني } علمية، أي فأنْبِئُوني، والفعل معلقاً عن العمل بالاستفهام بــــ { ماذا }.

السابقالتالي
2