الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

عطف على جملةأوْ لم يَتَفكروا في أنْفُسهم } الروم 8 وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قولهولكن أكثر الناس لا يعلمون } الروم 6 أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله { وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم } الآية. والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالىقُلْ سيروا في الأرْض ثم انظروا كيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبِين } في سورة الأنعام 11، وقولهقل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } في سورة العنكبوت 20. والاستفهام في { أوَلَم يسيروا } تقريري. وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالىألم يروا أنه لا يكلمهم } الأعراف 148 وقولهألم يأتكم رسل منكم } في الأنعام 130، وقولهأليس في جهنم مثوىً للكافرين } في آخر العنكبوت 68. والأرض اسم للكرة التي عليها الناس. والنظر هنا نظر العين لأن قريشاً كانوا يمرّون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد. وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قولهأولم يتفكروا في أنفسهم } الروم 8 الآية بدلالة الحس بقوله { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. وكيف استفهام معلِّق فعل { ينظروا } عن مفعوله، فكأنه قيل فينظروا ثم استؤنف فقيل كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. والعاقبة آخر الأمر من الخير والشرّ، بخلاف العُقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة، وتقدم ذكر العاقبة في قولهوالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقين } في الأعراف 128. وقد جمع قوله { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } وعيداً على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وتجهيلاً لإحالتهم الممكنَ، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يُغلَبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم. والمراد بالذين من قبلهم عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم، كما دل عليه قوله عقبه { كانوا أشد منهم قوة } الآية. { كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ } كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميراً في الأرض، وكلهم جاءتهم رسل، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال، كل هذه ما تُقرّ به قريش. وجملة { كانوا أشد منهم قوة } بيان لجملة { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم }. والشدة صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيهاً لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول.

السابقالتالي
2 3