الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ }

لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين. و { ما } شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملةفئاتِ ذا القربى حقه } الروم 38 الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه. ومعنى { ءاتيتم } آتى بعضكم بعضاً لأن الإيتاء يقتضي مُعطياً وآخذاً. وقوله { لتربوا في أموال الناس } خطاب للفريق الآخِذِ. و { لتربوا } لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالاً على أموالكم. وقوله { في أموال الناس } { في } للظرفية المجازية بمعنى من الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحاً تحصل لكم من أموال الناس، فحرف { في } هنا كالذي في قول سَبْرةَ الفقعسي
ونَشْرَبُ فِي أثمانها ونُقامر   
أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالىوارْزُقُوهُمْ فيها واكْسُوهم } في سورة النساء 5. و { مِن } في قوله { من رباً } وقوله { من زكاة } بيانية مبينة لإبهام { مَا } الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة. وقوله { فلا يربوا عند الله } جواب الشرط. ومعنى { فلا يربوا عند الله } أنه عمل ناقص عند الله غير زاكٍ عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالىيمحق الله الربا ويربي الصدقات } البقرة 276، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا { فأولئك هم المضعفون } وقولهلا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } في سورة آل عمران 130. وهذا المعنى مروي عن السدّي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى { في } من قوله { في أموال الناس }. ويجوز أن يكون لفظ { ربا } في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصدَ الزيادة في أموالهم تقرباً إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والمَلَق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئاً وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة { لتربوا } توكيداً لفظيّاً ليعلق به قوله { في أموال الناس }.

السابقالتالي
2