الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها، وقد اشتمل الكلام قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس، وإصابة السوء إياهم، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس، وذكر بسط الرزق وتقديره. وتضمن ذلك أن الفرح يُلْهِيهم عن الشكر، وأن القنوط يُلْهِيهم عن المحاسبة في الأسباب، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشاداً إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكراً من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيَّق عليهم الرزق، كما يُحِب أن يوسع عليه رزقه فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قولهذلك خير للذين يريدون وجه الله } الروم 38 الآية، ويجوز أن يكون خطاباً لغير معيّن من المؤمنين. والإيتاء الإعطاء. وهو مشعر بأن المعطَى مال، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قولهأو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } الروم 37. وصيغة الأمر من قوله { فئات } مُجمل. والأصل في محملها الوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب. وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتِي. وعن مجاهد وقتادة صلة الرحم ــــ أي بالمال ــــ فرض من الله عز وجل لا تقبل صدقة أحد ورَحمه محتاجة. وقال الحسن حق ذي القربى المواساة في اليُسر، وقول ميسور في العسر. وقال ابن عطية معظم ما قُصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " في المال حق سوى الزكاة " وللمساكين وابن السبيل حق، وبَيَّن أن حق هذين في المال اهــــ. أقول ولذلك قال جمع كثير إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقال فريق لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه. قلت وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة. و { القربى } قُرب النسب والرحِم. وتقدم عند قولهوالجار ذي القربى } في سورة النساء 36. والمسكين تقدم في قولهللفقراء والمساكين } في سورة التوبة 60. وابن السبيل المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي. ووقع الحق مجملاً والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبي. وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن. وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة، وقرنت بالصلاة فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنُصب ثم ضبطت بأصناف ونُصُب ومقاديرَ مخرجةٍ عنها.

السابقالتالي
2