الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } * { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

عطف على جملةفرّقوا دينهم وكانوا شيعاً } الروم 32 أي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم. فالمقصود من الجملة هو قوله { ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } ، فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر، بخلاف حال المؤمنين فإنهم إذا أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله. ونُسِجَ الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ { الناس } من العموم وإدماجاً لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم. فالتعريف في { الناس } للاستغراق. والضُرّ، بضم الضاد سوء الحال في البدن أو العيش أو المال، وهذا نحو ما أصاب قريشاً من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف، وحتى أكلوا العظام والميتة، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية، فالشدة أقوى عليهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم، قال تعالىفارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } الدخان 10 الآيات، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم و { منيبين } حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام، قال تعالىإنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } الدخان 15. وتقدم { مُنيبين } آنفاً. والمس مستعار للإصابة. وحقيقة المس أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله، وتقدم في قولهليمسَنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم } في العقود 73. واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضُر بَلْهَ الضرّ الشديد. والإذاقة مستعارة للإصابة أيضاً. وحقيقتها إصابة المطعوم بطَرَف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقلّ من المضغ والبلع، وتقدم في قوله تعالىلِيَذُوق وبال أمْره } في سورة العقود 95،وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء } في سورة يونس 21. واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم. والرحمة تخليصهم من الشدّة. و { ثمّ } للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم، وحَرْف المفاجأة { إذا } يفيد أيضاً أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم. وضمير { منه } عائد إلى الله تعالى. و { مِن } ابتدائية متعلقة بــــ { أصابهم. } و { رحمة } فاعل { أصابهم } ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور.

السابقالتالي
2