الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلْق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثاراً مشاهدة، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تُشاهد آثارُها. ومن الحكم الإلهية في كون البرق مرئياً أن ذلك يثير في النفوس خوفاً من أن يكون الله سلطه عقاباً وطمعاً في أن يكون أراد به خيراً للناس فيطمعون في نزول المطر، ولذلك أعقبه بقوله { وينزِّل من السماء ماء } فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق. وقوله { من آياته } جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كونٍ إن كان ظرفاً مستقراً، أو إلى متعلَّق إن كان ظرفاً لغواً. وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبَر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملاً على نظائره، فيكون المعنى ومن ءاياته إراءته إياكم البَرق الخ. فلذلك قال أيمة النحو يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود أن ولا تقديرها، أي من غير نصب المضارع بتقدير أن محذوفة، وجعلوا منه قول عُروة بن الوَرْد
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو إلى الإصباح آثر ذي آثار   
وقول طرفة
ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى   
وجعلوا منه قوله تعالىقل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } الزمر 64 برفع { أعبد } في مشهور القراءات، وقولهم في المثل تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس تعدِل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة " وقوله فيه " وتميط الأذى عن الطريق صدقة " رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغه الواردة في الاستعمال، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقولهومن آياته خلق السماوات والأرض } الروم 22 وقولهوابتغاؤكم من فضله } الروم 23، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران { أن } المصدرية بالفعل الماضيأن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً } الروم 21 واقترانها بالفعل المضارعومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } الروم 25، وباسم المصدر تارةومن ءاياته منامكم بالليل والنهار } الروم 23 ومرة بالفعل المجرد المؤوّل بالمصدر { ومن آياته يريكم البرق }. ولك أن تجعل المجرور متعلقاً بــــ { يريكم } وتكون { من } ابتدائية في موضع الحال من البرق، وتكون جملة { يريكم البرق } معطوفة على جملةومن آياته منامكم بالليل والنهار } الروم 23 الخ. فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة.

السابقالتالي
2