الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ }

{ ثم } للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلاً لحكاية ما حلّ بالأمم السالفة من قولهكيف كان عاقبة الذين من قبلهم } الروم 9. والمعنى ثم عاقبةُ كل من أساءوا السوأى مثلَهم، فيكون تعريضاً بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالىدمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها } محمد 10، فالمراد بــــ { الذين أساءوا } كل مسيىء من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذاراً لمشركي العرب المتحدث عنهم من قولهولكن أكثر الناس لا يعلمون } الروم 6 فيكونوا المراد بــــ { الذين أساءوا } ، ويكون إظهاراً في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصِلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم، وأصل الكلام ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل { كان } الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثلأتى أمر الله } النحل 1 إتماماً للنذارة. والعاقبة الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها. وتقدمت في قولهثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في سورة الأنعام 11، وقولهوالعاقبة للتقوى } في سورة طه 132. { والذين أساءوا } هم كفار قريش، والمراد { بآيات الله } القرآن ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. والسوأى تأنيث الأسَوإ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قولهللذين أحسنوا الحسنى } يونس 26. وتعريف { السوأى } تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة. ويحتمل أن يراد بــــ { الذين أساءوا } الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلاً إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم. وفعل { كان } على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب { عاقبةُ } بالرفع على أصل الترتيب بين اسم { كان } وخبرها. وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر { كان } مُقدم على اسمها وهو استعمال كثير. والفصل بين { كان } ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل { كان }. و { أن كذبوا } تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع { أنْ } وآيات الله القرآن والمعجزات. والباء في { بها يستهزئون } للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة.