الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } * { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ }

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قولهفاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } آل عمران 95 لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة، وحرمتها ـــ فيما مضى من الزّمان ـــ. وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع إنّ في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر، أو شكّ شاكّ. ومن خصائص إنّ إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط، كما في دلائل الإعجاز. ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون إنّ مؤذنة بالربط. وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده، وهو مائل، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قولهإن الدين عند اللَّه الإسلام } آل عمران 19. وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي. وقال الواحدي، عن مجاهد تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية. و { أوَّل } اسم للسابق في فِعلٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه. والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة، فيكون بيتَ سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثوابِ نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالىوجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } النحل 81. ومعنى { وُضع } أسّسَ وأثْبِتَ، ومنه سمّي المكان موضعاً. وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول، كان الموضوع هو قريب التناول، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول، والتَّهيئة للانتفاع. والنَّاس تقدّم في قوله تعالىومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه } في سورة البقرة 8. { بكّة } اسم مكَّة. وهو لغة ـــ بإبدال الميم باء ـــ في كلمات كثيرة عدّت من المترادف مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون الرماد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع، فتكون باء الجرّ ـــ هنا ـــ لظرفية مكان البيت خاصّة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10