الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابينِ من قبله، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قولهنزل عليك الكتاب بالحق } آل عمران 3 وتمهيد لقوله { منه آيات محكمات } لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح فالإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح إذ وُصف فيها بأنّه روح الله وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء بأويل. وفي قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى لتكون الجملة، مع كونها تأكيداً وتمهيداً، إبطالاً أيضاً لقول المشركينإنّما يعلّمه بَشَر } النحل 103 وقولهمأساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا } الفرقان 5. وكقولهوما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون } الشعراء 210 ـــ 212 ذلك أنّهم قالوا هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء جمعَ رئي. ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب. وضمير { منه } عائد إلى القرآن. و«منه» خبر مقدم و { آيات محكمٰت } مبتدأ. والإحكام في الأصل المنع، قال جرير
أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا   
واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور. أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد. وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض. وقوله { أم الكتاب } أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ، لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن. والكتاب القرآن لا محالة لأنّه المتحدّث عنه بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } فليس قوله { أم الكتاب } هنا بمثلِ قوله

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد