الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ }

استئناف و إذ ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي اذكُر إذ قال الله كما تقدم في قولهوإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة } البقرة 30 وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال له { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقبض نبي حتى يُخَيَّر " وقوله { إني متوفيك } ظاهر معناه إنّي مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه. فيقال توفاه اللَّهِ أي قدّر موته، ويقال توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالىوهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل } الأنعام 60 - وقوله -الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى } الزمر 42. أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله { هو الذي يتوفاكم بالليل } - ثم قال - { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرّع بالبيان بقوله فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل «يحتمل أنّ قوله مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز». وقال الربيع هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة معناه إنّي قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل متوفيك متقبل عملك.

السابقالتالي
2 3 4