الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، وضمائر النصب لمريم. ومعنى تقبلها تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى، ولم يكن ذلك مشروعاً من قبل. وقوله { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } الباء فيه للتأكيد، وأصل نظم الكلام فتقبّلها قبولاً حسناً، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلَة للتقبل فكأنه شيء ثانٍ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، وكل هذا إرهاصٌ بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة. ومعنى { وأنبتها نباتاً حسناً } أنشأها إنشاء صالحاً، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة، ونبات مفعول مطلق لأنبَت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف. { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا }. عُدَّ هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مُربّاه. وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أَبِيَّا ابن باكر بن بنيامين من كَهَنة اليهود، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجاً امرأةً من ذرية هارون اسمها اليصابات وكانت امرأته نسيبَة مريم كما في إنجيل لوقا قيل كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها، أو من قرابة أمها، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحْبار بني إسرائيل حرصاً. على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك كما يأتي، فطارت القرعة لزكرياء، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربيَةً صالحة لذلك. وقرأ الجمهور { وكَفَلها زكرياءُ } - بتخفيف الفاء من كفَلها - أي تولَّى كفالتها، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف وكَفّلها - بتشديد الفاء - أي أنّ الله جعل زكرياء كافلاً لها، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره، ممدوداً وبرفع الهمزة. وقرأه حمزة، والكسائي وحفص عن عاصم، وخلفٌ بالقصر، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالهمز في آخره ونصب الهمزة. { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. دل قوله { كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقاً } على كلام محذوف، أي فكانت مريم ملازِمة لخدمة بيت المقدس، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها مِحراباً، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامةً لها أنّ عندها ثِماراً في غير وقت وجود صنفها.

السابقالتالي
2