الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }

استئناف عُقب به الآي المتقدمة، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم، وتولّيهم عنه من قولهإن الذين كفروا لن تغني عنهم } آل عمران 116 إلى هنا. فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها نَهى الله المؤمنين - بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم ــــــ أنْ يتخذوا الكفّار أولياءَ من دون المؤمنين لأنّ اتّخاذهم أولياء ــــــ بعد أنْ سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتِّباعه ــــــ يعدّ ضعفاً في الدين وتصويباً للمعتدين. وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودّات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم. وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين. وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين مثل المراد من قولهومن يكفر بآيٰت اللَّه فإنّ اللَّه سريع الحساب } آل عمران 19، فلذلك كله قيل إن الآية نزلت في «حاطب بن أبي بلتعه» وكان كان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين، إلا أنه تأول فكتب كتاباً إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وقيل نزلت في أسماءَ ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرّ والدتها وصِلتِها، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة فإنّه ثبت في «الصحيح» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " صِلِي أمَّكِ " وقيل نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولِّين لكعْب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيق، وهما يهوديان بيثرب. وقيل نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود إذ هم كفّار جهتهم، وقيل نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود، فلما كان يوم الأحزاب، قال عُبادة للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يَخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو. وقيل نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذاباً شديداً، فقال ما أرادوه منه، فكَفُّوا عنه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " كيف تجد قلبك " قال «مطمئناً بالإيمان» فقال فإنْ عَادُوا فعُد. وقوله { من دون المؤمنين } من لتأكيد الظرفية. والمعنى مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده «ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء» لأنّه نفيٌ لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال، والعرب تقول «أنت منّي وأنا منك» في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة لست منّي ولست منك قال النابغة

السابقالتالي
2 3 4 5