الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

استئناف ابتدائي للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم. فالاستفهام في قوله { ألم تر } للتقرير والتعجيب، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلاً على نفي الفعل والمراد حصولُ الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضاً للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله، وقد تقدم عند قوله تعالىألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه } في سورة البقرة 258. والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى الذي يتعدى به فعل النظر، وجوز صاحب الكشاف في قوله تعالىألم تر إلى الذي أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } في سورة النساء 44 أن تكون الرؤية قلبية، وتكون إلى داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العِلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه، فتكون مثل قولهألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم } البقرة 258. وعُرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم، أعني اليهودَ لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليلٍ أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم. على ما في هذه الصلة أيضاً من توهين علمهم المزعوم. والكتاب التوراة فالتعريف للعهد، وهو الظاهر، وقيل هو للجنس. والمراد بالذين أوتوه هم اليهود، وقيل أريد النصارى، أي أهل نجران. والنصيب القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالىأولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة البقرة202. { وتنكير نصيباً } للنوعية، وليس للتعظيم لأنّ المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل. و { من } للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابُهم، والمراد أوتوا بعض كتابهم، تعريضاً بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلاّ حظّاً يسيراً، ويجوز كون مِن للبيان. والمعنى أوتوا حظّاً من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه. وجملة { يدعون إلى كتاب الله } في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها، وهو، قوله { ثم يتولى فريق منهم } لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله، وإذا جعلت تَر قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمتَ بُعده. و { كتاب الله } القرآن كما في قولهنبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللَّه وراء ظهورهم } البقرة 101. فهو غير الكتاب المراد في قوله { من الكتاب } كما ينبىء به تغيير الأسلوب. والمعنى يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحَه إلى صفاته. روي، في سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نُعيم بن عمرو، والحارث بن زَيد على أيّ دين أنت - قال على ملة إبراهيم - قالا فإنّ إبراهيم كان يهودياً.

السابقالتالي
2