الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ }

تفريع على قولهإن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } آل عمران 19 الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام. والمحاجة مُفاعلة ولم يجىء فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة. ومعنى المحاجّة المخاصمة، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل كما في قوله تعالىوحاجّهُ قومه } الأنعام 80 وتقدم عند قوله تعالىألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } في سورة البقرة 258. فالمعنى فإن خاصموك خصام مكابرة فقل أسلمت وجهي لله. وضمير الجمع في قوله { فإن حاجوك } عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل معلوم من المقام، وهو مقام نزول السورة، أعني قضية وفد نجران فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ. فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة، فانقطعت محاجّتهم، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة. وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله { أسلمت وجهي لله } والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالىكل شيء هالك إلاّ وجهه } القصص 88 أي ذاته. وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات، ومباهته، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد. قال الفخر فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول أمّا أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي. وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة { أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن } وقوله { أأسلمتم } دون أن يقال فأعرض عنهم وقُل سلام، ضَرْباً من الإدماج إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين. والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم، والإعذارُ إليهم، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارج عن الحاجة، وإنّما هو تكرّر للدعوة، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم. وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة، ومنه ما طُوي ذكره. الطريقة الثانية أنّ قوله { فقل أسلمت وجهي } تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله

السابقالتالي
2 3 4