الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ }

دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة. واستجاب بمعنى أجاب عند جمهور أيمّة اللغة، فالسين والتاء للتأكيد، مثل استوقد واستخلص. وعن الفرّاء، وعليّ بن عيسى الربعي أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قَبِل ما دُعِي إليه، وأجاب أعمّ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ. وقال الراغب الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيُّؤ له، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها. ويقال استجاب له واستجابه، فعدّي في الآية باللام، كما قالوا حَمِدَ له وشكر له، ويعدّي بنفسه أيضاً مثلهما. قال كعب ابن سعد الغنوي، يرثي قريباً له
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب   
وتعبيرهم في دعائهم بوصف { ربنا } دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبّة الخير له، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم «ربَّنا، ربَّنا». ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه جَعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه. فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وَجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهموآتنا ما وعدتنا على رسلك } آل عمران 194 تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحَبَط. وقوله { من ذكر أو أنثى } بيان لعَامِلٍ ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّراً خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويُداوين الكلْمى، ويسقين الجَيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين. وقوله { بعضكم من بعض } من فيه اتّصالية أي بعضُ المستجاب لهم مُتّصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء. قال تعالىالمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر } التوبة 67 إلخ... وقولهم هو منّي وأنا منه، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة
فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي   
وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد، وعلى هذا فمَوقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله { من ذكر أو أنثى } أي لأنّ شأنكم واحد، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى

السابقالتالي
2