الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } * { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } * { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } * { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

هذا غرض أُنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة، انتُقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلِّلات بالمناسبات، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات. ومِثْل هذا الانتقال يكون إيذاناً بانتهاء الكلام على أغراض السورة، على تفنّنها، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذاناً بأنّه أشرف على الانتهاء، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة، كما وقع في ختام سورة البقرة. وحرف إنّ للاهتمام بالخبر. والمراد بـ { خلْق السماوات والأرض } هنا إمّا آثار خَلْقِها، وهو النظام الذي جعل فيها، وإمّا أن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالىهذا خلق اللَّه } لقمان 11. و { أولو الألباب } أهل العقول الكاملة لأنّ لبّ الشيء هو خلاصته. وقد قدّمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالىإن في خلق السمٰوات والأرض واختلاف اللَّيل والنهار والفلك } البقرة 164 إلخ. و { يذكرون الله } إمّا من الذِّكر اللساني وإمّا من الذُّكر القلبي وهو التفكّر، وأراد بقوله { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } عموم الأحوال كقولهم ضَربه الظهرَ والبطْن، وقولهم اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب، على أنّ هذه الأحوال هي متعارَف أحوال البشر في السلامة، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم. وقيل أراد أحوال المصلّين من قادر، وعاجز، وشديد العجز. وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى. وقوله { ويتفكرون في خلق السمٰوات والأرض } عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر، وإعادتُه لأجل اختلاف المتفكَّر فيه، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله { يذكرون } ذِكر اللسان. والتفكّر عبادة عظيمة. روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتبية قال قيل لأمّ الدرداء ما كان شأن أبي الدرداء؟ قالت كان أكثر شأنه التفكّر، قيل له أترى التفكّر عَمَلاً من الأعمال؟ قال نعم، هو اليقين. { والخلق } بمعنى كيفية أثر الخلق، أو المخلوقات التي في السماء والأرض، فالإضافة إمّا على معنى اللام، وإمّا على معنى في. وقوله { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قَوْلٍ أي يتفكّرون قائلين ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء. فإن قلت كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم. قلت يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5