الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالمَوصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطَلُّب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه، ويتطلّب المحمدة عليه. وقيل نزلت في المنافقين، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيَّنون من اليهود أو المنافقين، فمعنى { يفرحون بما أتوا } أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمناً قليلاً وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا. ومعنى { يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة وحُرّاسها والعالمون بتأويلها، وذلك خلاف الواقع. هذا ظاهر معنى الآية. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين. وفي «البخاري»، عن أبي سعيد الخدْري أنّها نزلت في المنافقين، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية المجاهدين، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق. وفي «البخاري» أنّ مروان بن الحكم قال لِبَوّابِه «اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل لئِنْ كان كلّ امرىء فرح بما أتَى وأحَبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذّباً لنعذّبَنّ أجْمعون» قال ابن عباس «وما لكم ولهذه إنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ، فسألهم عن شيء فأخبروه بغيره فأرَوْه أنّهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرِحوا بما أتوا من كتمانهم» ـــ ثم قرأ ابن عباسوإذ أخذ الله ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب } آل عمران 187 حتّى قولهلا تَحْسِبَنّ الذين يفرحون بما أتوا } آل عمران 188 الآية. والمفازة مكان الفوزَ. وهو المكان الذي مَن يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مَفَازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها. قال النابغة
أوْ أضَعُ البيتَ في صَمَّاء مُظلمةٍ تُقَيّدُ العَيْر لا يسري بها الساري تُدافع الناس عنّا حين نركبها من المظالم تُدْعَى أمّ صَبَّار   
ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله { من العذاب }. وحرف مِن معناه البدلية، مثل قوله تعالىلا يسمن ولا يغني من جوع } الغاشية 7، أو بمعنى عن بتضمين مفازة معنى منجاة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمور، وأبو جعفر لا يحسبنّ الذين يفرحون ـــ بالياء التحتية ـــ على الغيبة، وقرأه الباقون ـــ بتاء الخطاب ـــ.

السابقالتالي
2