الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }

معطوف على قولهولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } آل عمران 186 فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهمإن الله فقير ونحن أغنياء } آل عمران 181. والقولُ في معنى أخذ الله تقدّم في قولهوإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } البقرة 34 ونحوه. و { الذين أوتوا الكتاب } هم اليهود، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبياِئهم، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول. وجملة { لتبيننه للناس } بيان للميثاق، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم ليُبيّننّه ـــ بياء الغيبة ـــ على طريقة الحكاية بالمعنى، حيث كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم. وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه باعتبار كلام الحاكي، وكلام المحكي عنه، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو أقسَم زيد لا يفعلُ كذا، وأقسم لا أفعل كذا، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه كما في قوله تعالىقالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله } النمل 49 قرىء ـــ بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية ـــ لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه، إذا جعل تقاسموا فعلاً ماضياً فإذا جعل أمراً جاز وجهان في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية. والقول في تصريف وإعراب { لتبيّننّه } كالقول في { لتبلونّ } المتقدّم قريباً. وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله، وعدمُ كتمانه إي إخفاء شيء منه. فقوله { ولا تكتمونه } عطف على لتبيننه للناس ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما. وقوله { فنبذوه } عُطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان. ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه. ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّاً كانت كلّ جزئية مأخوذاً عليها الميثاق، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء. والنبذ الطرح والإلقاء، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.

السابقالتالي
2