الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }

استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة. فأصل { لتبلونّ } لتبلووننّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان واو الرفع ونون التوكيد الشديدة، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ. وكذلك القول في تصريف قوله تعالى { ولتسمعنّ } وفي توكيده. والابتلاء الاختبار، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات. والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة. والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح. وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده. والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالىلن يضروكم إلا أذى } آل عمران 111 كما تقدّم آنفاً، ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد، وهي بعد الأمر بالقتال. قاله القفّال. وقوله { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل فإنّ المذكور. وعزم الأمور من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول، أي من الأمور المعزوم عليها. والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد. قال تعالىوشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } آل عمران 159 والمراد هنا العزم في الخيرات، قال تعالىفاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } الأحقاف 35 وقالولم نجد له عزما } طه 115. ووقع قوله { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط، والتقدير وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور.