الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ }

أبدل { الذين قالوا إن الله عهد } منالذين قالوا إن الله فقير } آل عمران 181 لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان، أي حتّى يذبح قرباناً فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه. كما في سفر اللاويين. إلاّ أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة. وفي الحديث " ما من الأنبياء نبي إلاّ أوتي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيتُ وحْياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة " فقال الله تعالى لنبيّه { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم }. وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها وقتلتموهم، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقُربان تأكله النار على قولهم، وقتلهم آخراً يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فلا عجب أن يأتي خلَفُهم بمثل ما أتى به سلفهم. وقوله { إن كنتم صادقين } ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة. وإنّما قال { وبالذي قلتم } عُدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلاً عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالىوقال لأوتينّ مالاً وولَداً } مريم 77 إلى قولهونرثه ما يقول } مريم 80 أي نرث ماله وولده. ثم سلى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله " فإن كذّبوك فقد كُذّب رسل من قبلك " والمذكور بعد الفاء دليل الجواب لأنّه علّته، والتقدير فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تخزن لأنّ هذه سُنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك، وليس ذلك لنقص فيما جئت به. والبيّنات الدلائل على الصدق، والزبر جمع زبور وهو فَعول بمعنى مفعول مثل رسول، أي مزبور بمعنى مخطوط. وقد قيل إنه مأخوذ من زَبَر إذا زَجر أوْ حَبَس لأنّ الكتاب يقصد للحكم. وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل، ممّا يتضمّن مواعظ وتذكيراً مثل كتاب داوود والإنجيل. والمراد بالكتاب المنير إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل، وإن كان للعهد فهو التوراة، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيِّن للحق كقوله

السابقالتالي
2