الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } * { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }

استئناف جملة { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات، والذين قالوا ذلك هم اليهود، كما هو صريح آخر الآية في قوله { وقتلهم الأنبياء بغير حق } ، وقائل ذلك قيل هو حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ اليهودي، حَبر اليهود، لمّا سمع قوله تعالىمن ذا الذي يقرض اللَّه قرضاً حسناً } البقرة 245 فقال حُيَيّ إنّما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ، وقيل قاله فِنحَاص بن عَازورَاء لأبي بكر الصديق بسبب أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر إلى يهود قَيْنُقاع يدعوهم، فأتى بيت المِدْرَاس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حَبْرِهم، فدعاه أبو بكر، فقال فنحاص ما بنا إلى الله من حاجة، وإنّه إلينا لفقير ولو كان غنيّاً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهمّ بقتله، فنزلت الآية. وشاع قولهما في اليهود. وقوله { لقد سمع الله } تهديد، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر، ولذلك قال تعالى { لقد سمع } المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله { سنكتب ما قالوا }. والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات، وهذا بعيد، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد. فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة. فعلى الأول يكون وعيداً وعلى الثاني يكون تهديداً. وقرأ الجمهور { سنكتب ما قالوا وقتلَهم } بنون العظمة منسنكتب وبنصب اللام منقتلهم على أنّه مفعول نكتب ونقول بنون. وقرأه حمزة سيُكْتب ــــــ بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية ــــــ مبنيّاً للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى، وبرفع اللام منقتلُهم على أنه نائب الفاعل. ويقول بياء الغائب، والضمير عائد الى اسم الجلالة في قوله { إن الله }. وعطف قوله { وقتلهم الأنبياء بغير حق } زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا { إن الله فقير ونحن أغنياء } بل هم من أسلافهم، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم، وهي الاجتراء على الله ورسله، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل.

السابقالتالي
2