الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

عطف على { ولا يحسبن الذين كفروا } ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما حكى الله عنهم في سورة النساء 37 بقولهالذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا، وغير ذلك، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان، ولذلك قال معظم المفسّرين إنّ الآية نزلت في منع الزكاة، أي فيمن منعوا الزكاة، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق. ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد. ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم. أمّا شمولها لِمنع الزكاة، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس، فبدلالة فحوى الخطاب. وقرأ الجمهور { ولا يحسبنّ الذين يبخلون } ــــــ بياء الغيبة ــــــ، وقرأه حمزة ــــــ بتاء الخطاب ــــــ كما تقدّم في نظيره. وقرأ الجمهور تحسِبنّ ــــــ بكسر السين ــــــ، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم ــــــ بفتح السين ــــــ. وقوله { هو خيراً لهم } قال الزمخشري هو ضمير فصْل، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسماً وخبراً، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلاً مع المبتدأ والخبر، يعني فلا يصحّ أن يكون هُنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين أحدهما أن يكون هو ضميراً واقعاً موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب، ولعلّ الذي حسنّه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من { يبخلون } ، مثلاعدلوا هو أقرب للتقوى } المائدة 8، ومثل قوله
إذَا نُهِي السفيهُ جَرى إليه وخَالف والسفيهُ إلى خلاف   
ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصاراً لدلالة ضمير الفصل عليه، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلّ المضافُ إليه محلّه، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيراً وعلى قراءة التحتيّة ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلهم خيراً. والبُخْل ــــــ بضم الباء وسكون الخاء ــــــ ويقال بَخَل بفتحهما، وفعلُه في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع. وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لِخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلاّ بها. وهو ضدّ الجود، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض، هذا حقيقته، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم

السابقالتالي
2