الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

استئناف ابتدائي، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أُحُد من الحِكم النافعة دُنيا وأخرى، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالىوما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين } آل عمران 166 بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم، فقدّر ذلك زماناً كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس، وقرّ للمؤمنين الخالصين المُقام في أمْن، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمَّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال، ورأوا انتصارهم يوم بدر، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم، بأن أصاب المؤمنين بقَرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين، وسجّل الله عليهم نفاقهم بادياً للعيان كما قال
جَزَى الله المصائبَ كلّ خير عرفتُ بها عدوّي من صديقي   
ومَا صَدْقُ { ما أنتم عليه } هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال. وحَرْفَا على الأوّلُ والثاني، في قوله { ما أنتم عليه } للاستعلاء المجازي، وهو التمكّن من معنى مجرورها ويتبيّن الوصف المبهم في الصلة بما وردَ بعد حتَّى من قوله { على ما أنتم عليه } ، فيعْلم أنّ ما هُم عليه هو عدمُ التمييز بين الخبيث والطيّب. ومعنى { ما كان الله ليذر المؤمنين } نفي هذا عن أن يكون مراداً لله نفياً مؤكَّداً بلام الجُحود، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالىما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } آل عمران 79 إلخ... فقوله { على ما أنتم عليه } أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق، فالضمير في قوله { أنتم عليه } مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين. والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخُلَّص من النفاق، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك، فلم يقل ليذركم على ما أنتم عليه تنبيهاً على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين، ولذلك لم يقل على ما هم عليه. وقوله { حتى يميز الخبيث من الطيب } غاية للجحود المستفاد من قوله { ما كان الله ليذر } المفيد أنّ هذا الوَذْر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعاً منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطّيب صار هذا الوذر ممكناً، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة. ولحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود، فمعناها تنهية الاستحالة ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية، فيكون حصوله كالمستحيل، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفياً، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا صاحب «الكشاف» ومتابعوه، وتنّبه لها أبو حيّان، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات، فجعل التقدير إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان، حتّى يميز.

السابقالتالي
2 3