الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } * { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } * { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

يجوز أن يكون { الذين قال لهم الناس } إلى آخره، بدلاً منالذين استجابوا لله والرسول } آل عمران 172، أو صفة له، أو صفة ثانية للمؤمنين في قولهوأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } آل عمران 171 على طريقة ترك العطف في الأخبار. وإنَّما جيء بإعادة الموصول، دون أن تعطف الصلة على الصلة، اهتماماً بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلةٍ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنفٍ، فيكون مبتدأ وخبره قولهإنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } آل عمران 175 أي ذلك القول، كما سيأتي. وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يَوم أحُد بعامٍ، إنجازاً لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال مَوعدكم بدر في العام القابل، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل، وكاد للمسلمين ليُظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين، فجَاعَل ركباً من عبدِ القيس مارينَ بمَرّ الظَّهْرانَ قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشاً جمعوا لهم جيشاً عظيماً، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعداداً وحميّة للدين، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك، وكانت هنالك سوق فاتّجَرُوا ورجعوا سالمين غير مذمومين، فذلك قوله تعالى { الذين قال لهم الناس أي الركب العَبْدِيُّون إن الناس قد جمعوا لكم } أي إنّ قريشاً قد جمعوا لكم. وحذف مفعول { جمعوا } أي جمعوا أنفسهم وعُددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول. وقال بعض المُفسّرين وأهل العربية إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نُعيم بن مسعود وأبي سفيان، وجعلوه شاهداً على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله، وإطلاق لفظ الناس مراداً به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام، ومنه قوله تعالىأم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله } النساء 54 قال المفسّرون يعني بـالناس محمداً صلى الله عليه وسلم. وقوله { فزادهم إيماناً } أي زادهم قول الناس، فضمير الرفع المستتر في { فزادهم } عائد إلى القول المستفاد من فعل { قال لهم الناس } أو عائد إلى الناس، ولمّا كان ذاك القول مراداً به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم. وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون، جُعل ما حصل به زائداً في إيمان المسلمين. فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل، أي العزم على النصر والجهاد، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص. ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان، كما قال تعالىوما كان اللَّه ليضيع إيمانكم } البقرة 143 يعني صَلاتكم. أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول، فلا يقبل النقص، ولا يقبل الزيادة، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته، أو طال زمانه، أو قارنته التجارب، يزداد جلاء وانكشافاً، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام

السابقالتالي
2 3