الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } * { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

قوله { ولا تحسبن } عطف علىقل فادرءوا عن أنفسكم الموت } آل عمران 168، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى، فقيل لهم إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة، فقال { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم. والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم تعليماً له، وليُعلِّم المسلمين، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن. والحسبان الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات. وقرأ الجمهور الذين قُتِلوا ـــ بتخفيف التاء ـــ وقرأه ابن عامر ـــ بتشديد التاء ـــ أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً. وقوله { بل أحياء } للإضراب عن قوله { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر، فالتقدير بل هم أحياء، ولذلك قرأه السبعة ـــ بالرفع ـــ، وقرىء ـــ بالنصب ـــ على أنّ الجملة فعلية، والمعنى بل أحسبتم أحياء، وأنكرها أبو علي الفارسي. وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح، غير مضمحلّة، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم، ومسرّتهم بإخوانهم، ولذلك كان قوله { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق، ونبضات القلب، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة. فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله أحياء كما هو الظاهر، فالأمر ظاهر، وإن علقناه بقوله { يرزقون } فكذلك، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. وقولُه { فرحين } حال من ضمير { يرزقون }. والاستبشار حصول البشارة، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالىواستغنى اللَّه } التغابن 6 وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين.

السابقالتالي
2 3