الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } * { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

عطف على قولهأو لما أصابتكم مصيبة } آل عمران 165 وهو كلام وارد على معنى التسليم أي هَبُوا أنّ هذه مصيبة، ولم يكن عنها عوض، فهي بقدر الله، فالواجب التسليم، ثم رَجَع إلى ذكر بعض ما في ذلك من الحكمة. وقوله { وما أصابكم } أرادَ به عين المراد بقوله { أصابتكم مصيبة } وهي مصيبة الهزيمة. وإنّما أعيد ما أصابكم لِيعيّن اليوم بأنّه يومَ التقى الجمعان. وما موصولة مضمّنة معنى الشرط كأنّه قيل وأمّا ما أصابكم، لأنّ قوله { وما أصابكم } معناه بيانُ سببه وحكمته، فلذلك قرن الخبر بالفاء. و { يوم التقى الجمعان } هو يوم أُحُد. وإنَّما لم يقل وهي بإذن الله لأنَّ المقصود إعلان ذكر المصيبة وأنّها بإذن الله إذ المقام مقام إظهار الحقيقة، وأمّا التعبير بلفظ { ما أصابكم } دون أن يعاد لفظ المصيبة فتفنّن، أو قُصد الإطناب. والإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجّه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين، وعدم تدارك ذلك باللطف. ووجه الشبه أنّ الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبِه ومراده، ذلك أنّ الله تعالى رتّب الأسباب والمسبّبات في هذا العالم على نظام، فإذا جاءت المسبّبات من قِبَل أسبابها فلا عجب، والمسلمون أقلّ من المشركين عدداً وعُدداً فانتصار المسلمين يومَ بدر كرامة لهم، وانهزامهم يوم أُحُد عادة وليس بإهانة. فهذا المراد بالإذن. وقَوله { وليعلم المؤمنين } عطف على { فإذن الله } عطفَ العلّة على السبب. والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرّر في الخارج كقول إياس بن قبيصة الطائي
وأقْبَلْتُ والخَطِّيُّ يَخْطر بيننا لأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُها مِن شجاعها   
أراد لتظهر شجاعتي وجبن الآخرين. وقد تقدّم نظيره قريباً. و { الذين نافقوا } هم عبد الله بنُ أبيّ ومن انخزل معه يوم أحُد، وهم الذين قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قاله لهم عبد الله بن عُمَر ابن حَرَام الأنصاري، والدُ جابر بن عبد الله، فإنّه لمّا رأى انخزالهم قال لهم اتّقوا الله ولا تتركوا نبيئكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفَعوا. والمراد بالدفع حِراسة الجيش وهو الرباط أي ادفعوا عنّا من يريدنا من العدوّ فلمّا قال عبد الله بن عمر بن حرام ذلك أجابه عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم لَوْ نَعْلَمُ قتالاً لاتَّبعناكم، أي لم نعلم أنّه قتال، قيل أرادوا أنّ هذا ليس بقتال بل إلقاء باليد إلى التَّهْلُكَة، وقيل أرادوا أنّ قريشاً لا ينوون القتال، وهذا لا يصحّ إلاّ لو كان قولُهم هذا حاصلاً قبل انخزالهم، وعلى هذين فالعِلم بمعنى التحقّق المسمّى بالتصديق عند المناطقة، وقيل أرادوا لو نحسن القتال لاتّبعناكم، فالعِلم بمعنى المعرفة، وقولهم حينئذ تهكّم وتعذُّر.

السابقالتالي
2