الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }

استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم. ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقولهفبما رحمة من الله لنت لهم } آل عمران 159، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه. والمنّ هنا إسداء المِنّة أي النِّعمة، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قولهلا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى } في سورة البقرة 264، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر. والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وطوْل الله ليس بمجحود. والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبي بقرينة السياق وهو قوله { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي من أمَّتهم العربية. وإذ ظرف لـمَنّ لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث. ومعنى { من أنفسهم } المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن. والعرب تقول فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته. وعن النقاش قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب، وبذلك فسّر " قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ". وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين.

السابقالتالي
2