الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملةإن ينصركم الله فلا غالب لكم } آل عمران 160. الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه. وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم. والغلُول تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة. ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين. وقرأ جمهور العشرة يُغَلّ ـــ بضمّ التحتية وفتح الغين ـــ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو وعاصم ـــ بفتح التحتية وضَمّ الغين ـــ. والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش، والغلول مصدر غير قياسي، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً. وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي. وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالىما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } آل عمران 79 في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي. والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النبي عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النبي صلى الله عليه وسلم غلول للنبي، إذ قسمة الغنائم إليه، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النبي لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النبي مجاز عقلي لملابسة جيش النبي نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف. والتقدير ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ. ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة. ومعنى و { من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة. ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ أنّ مَزْيَداً ـــ رجلاً من الأعراب ـــ سرق نافجة مسك فقيل له كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }؟ فقال إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل.

السابقالتالي
2