الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }

استئناف نشأ عن قولهولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم } آل عمران 157 أو عن قولهلا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } آل عمران 156 الآية. ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام، وخَذْله إيّاهم في بعضها، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قولهيأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } محمد 7 وقوله { فأثابكم غماً بغم } آل عمران 153 وقوله الآتيأو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا } آل عمران 165 وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجيادُ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قولهقد خلت من قبلكم سنن } آل عمران 137 إلى هنا، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي، وصالحٍ للعمل به في المستقبل، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر. والنَّصر الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار. والخِذْلانُ ضدّه وهو إمساك الإعانة مع القدرة، مأخوذ من خَذلت الوَحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.

السابقالتالي
2