الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

الضمير في قوله { ثم أنزل } ضمير اسم الجلالة، وهو يرجّح كون الضمير { أثابكم } مثله لئلا يكون هذا رجوعاً إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله { ولقد صدقكم الله وعده } والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة. وسمّي الأغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال نزلت السكينة. والأمَنةُ ـــ بفتح الميم ـــ الأمن، والنعاس النوم الخفيف أو أوّل النَّوم، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا، قال أبو طلحة الأنصاري، والزبير، وأنس ابن مالك غشينا نعاس حتَّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا. وقد استجدّوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأنّ الحزن تبتدىء خفّته بعد أوّل نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها. و نعاساً بَدل على أمنة بدل مطابق. وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية الأنفال 11إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم، فهو كالسكينة، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل، ويجعل النعاس بدلاً منه. وقرأ الجمهور يَغشى بالتحتية على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بالفوقية بإعادة الضّمير إلى أمَنة، ولذلك وصفها بقوله منكم }. لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين، كما علم من المقابلة، ومن قوله { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، ومِن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى. { وطائفة } مبتدأ وصف بجملة { قد أهمتهم أنفسهم }. وخبره جملة { يظنون بالله غير الحق } والجملة من قوله { وطائفة قد أهمتهم } إلى قوله { والله عليم بذات الصدور } اعتراض بين جملة { ثم أنزل عليكم } الآية. وجملةإن الذين تولوا منكم } آل عمران 155 الآية. ومعنى { أهمتهم أنفسهم } أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه أي من الندم على ما فات، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام، وهذا كقوله الآتيليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم } آل عمران 156. وقيل معنى { أهمّتهم } أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد، وكان رأسُ هذه الطائفة معتّب بن قشير. وجملة { يظنون بالله غير الحق } إمَّا استئناف بياني نشأ عن قوله { قد أهمتهم أنفسهم } وإمَّا حال من طائفة. ومعنى { يظنون بالله غير الحق } أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية.

السابقالتالي
2 3 4