الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ }

استئناف نشأ عن قولهلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } آل عمران 10 إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير «هم» دالة على أنّها معلومة للمسلمين. قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات. وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس. والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً. وقال امرؤ القيس
الحرب أول ما تكون فتيَّة تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول   
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه، قال تعالىتريد زينة الحياةِ الدنيا } الكهف 28. وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة
أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا   
وفي حديث «سنن أبي داود» أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد - وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض - فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح. قال أبو برزة «ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد». فقال عبيد الله «إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن». والشهوات جمع شهوة، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي، والشهوة بزنة المَرّة، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة. وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف. وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ، أي المشتهيات نفسها، لا حبُّها، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان، وليس الحبّ بمزيَّن، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق. والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق، مبيّناً لنوع التزيين أي زيّن لهم تزيين حب، وهو أشدّ التزيين، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل، وأصل الكلام زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل، وجعل نائباً عن الفاعل، كما جعل مفعولاً في قوله تعالىفقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } ص 32. وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة. وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار، فعبّر عن ذلك بالتزيين، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة، وقد تكون في كثير منها مضارّ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال.

السابقالتالي
2 3 4