الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }

استئناف ابتدائي تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحُد، وما بينهما استطراد، كما علمت آنفاً، وهذا مقدّمة التَّسلية والبشارة الآيتين. ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية. وجيء بـ قد، الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال { قد خلت من قبلكم سنن }. والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم. ومعنى خلت مضت وانقرضت. كقوله تعالىقد خلت من قبله الرسل } آل عمران 137. والسنن جمع سنة ـــ وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرءُ صدور العمل على مثالها قال لبيد
من معشر سنَّت لهم آباؤهم ولكُلّ قوم سْنَّة وإمَامُهَا   
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي
فَلاَ تَجْزَعَنْ من سُنّة أنتَ سرْتها فأوّلُ راضٍ سنّةً من يَسيرها   
وقد تردّد اعتبار أيمّة اللّغة إيّاها اسماً جامداً غير مشتقّ، أو اسم مصْدر سَنّ، إذ لم يرد في كلام العرب السَّنُّ بمعنى وضْع السنّة، وفي «الكشاف» في قولهسنة اللَّه في الذين خلوا من قبل } في سورة الأحزاب38 سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تُرْباً وَجَنْدَلاً، ولعلّ مراده أنَّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تُربا وجندلاً مُقام تَبَّاً وسُحْقاً في النصب على المفعولية المطلقة، الَّتي هي من شأن المصادر، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حُصِب بتراب ورُجم بجندل. ويظهر أنَّه مختار صاحب القاموس لأنَّه لم يذكر في مادّة سَنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر، ولا أتى بها عقب فعل سَنّ، ولا ذكر مصدراً لفعل سنّ. وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة، وهو اشتقاق نادر. والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين أنّ السنّة اسم مصدر سَنّ ولم يذكروا لِفعل سَنّ مصدراً قياسياً. وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيراًفلن تجد لسنة اللَّه تبديلاً } فاطر 43 وفسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية. والمعنى قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هى عادة الله في الخلق، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتّقين المحقّين، ولذلك قال { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم.

السابقالتالي
2