الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

إن كان عطفَ فريقٍ آخر، فهم غيرُ المتّقين الكاملين، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، وإن كان عطفَ صفات، فهو تفضيل آخر لحال المتَّقين بأن ذُكر أوّلاً حال كمالهم، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم. والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالىالذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } النجم 32 واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً، كما في قول عائشة «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً»، أو فعلَ فعلاً ذميماً، ومنهقل إن الله لا يأمر بالفحشاء } الأعراف 28. ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قولهالذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } النجم 32. فقيل الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً، وقيل الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس، وقيل الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال. والذكر في قوله { ذكروا الله } ذكر القلب وهو ذِكر ما يجب لله على عبده، وما أوصاه به، وهو الَّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك. ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده. والاستغفار طلب الغَفْر أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التَّعليل كما هنا، وقوله تعالىواستغفر لذنبك } غافر 55. ولمَّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التَّقوى. وليس الاستغفار مجرّد قول أستغفر الله باللّسان والقائلُ ملتبس بالذنوب. وعن رابعة العدوية أنَّها قالت «استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار» وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنَّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه. وجملة { ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } معترضة بين جملة { فاستغفروا } وجملة { ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا }. والاستفهام مستعمل في معنى النَّفي، بقرينة الاستثناء منه، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب، والتعريض بالمشركين الَّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، وبالنَّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صَلبه. وقوله { ولم يصروا } إتمام لركْني التَّوبة لأنّ قوله { فاستغفروا لذنوبهم } يشير إلى الندم، وقوله { ولم يصروا } تصريح بنفي الإصرار، وهذان ركنا التَّوبة.

السابقالتالي
2