الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكلّ إناء بما فيه يرشح، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق. وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى ـــ في سورة البقرة 85 ـــثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل { هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة. وجملة { ولا يحبونكم } جملة حال من الضمير المرفوع في قوله { تحبونهم } لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين. وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنَّه مجرد إيقاظ، ولذلك عقّبه بقوله { وتؤمنون بالكتاب كله } فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ. وهذان النظران، منّا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم. جملة { وتؤمنون } معطوفة على { تحبونهم } كما أن جملة { وإذا لقوكم } معطوفة على { ولا يحبونكم } وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة. والتعريف في { الكتاب } للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاةً للفظه، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيتِ القَيْنُقَاعي. والعَضّ شدّ الشيء بالأسنان. وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر. وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب، وضَرب الرجل نفسه من الغضب، وعضّه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنّه من النَّدم، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلّي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل، وقال الحارث بن ظالم المري
فأقبل أقوام لئام أذلّة يعضّون من غيظ رؤوس الأباهم   
وقوله { عليكم } على فيه للتَّعليل، والضّمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة، أي على التئامكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالىيأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتٰب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }

السابقالتالي
2