الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

يتنزّل هذا منزلة التَّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير، وما بعده فإن قوله { تأمرون بالمعروف } حال من ضمير كنتم، فهو موذن بتعليل كونهم خيرَ أمَّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضاً من قبل، وأن يؤكد عليهم فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل. والخطاب في قوله { كنتم } إمَّا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عبَّاس. قال عمر هذه لأوّلنَا ولا تكون لآخِرنا. وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي كنتم أمَّة خير أمَّة أخرجت للنَّاس، فالمراد بالأمّة الجماعة، وأهل العصر النبوي، مثل القَرن، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالىوادّكَر بعد أمَّة } يوسف 45 أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل. ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم، لأن رسولهم أفضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها، قال النبي صلى الله عليه وسلم " خير القرون قرني " والفضل ثابت للجموع على المجموع، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رُسلها، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته. وإمّا أن يكون الخطاب بضمير { كنتم } للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد، إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائقها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى. وفعل كان يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار، ولا على انقطاع، قال تعالىوكان الله غفوراً رحيماً } النساء 96 أي وما زال، فمعنى { كنتم خير أمة } وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان، والدّعوة للإسلام، وإقامته على وجهه، والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جُعل ذلك من واجبهم، وقد قام كُلّ بما استطاع، فقد تحقّق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كُلّما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقّق أنهم خير أمَّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك.

السابقالتالي
2 3 4