الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }

تذييلات، والإشارة في قوله { تلك } إلى ائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله { نتلوها عليك بالحق }. والتلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه وهي كالقراءة إلاّ أن القراءة تختصّ بحكاية كلام مكتوب فيتّجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوءة بقوله تعالىإن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } آل عمران 59 إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل، وهو قولهذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } آل عمران 58 فيكون كل تذييل مستقلاً بطائفة الجمل الَّتي وقع هو عقبها. وخصّت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام، والمبطلة لدعاوي الفرق الثلاث من اليهود والنَّصارى والمشركين، مثل قولهإن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } آل عمران 59 وقولهومَا من إله إلاّ إله واحد } المائدة 74 الآية. وقولهفلِمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به علم } آل عمران 66 الآية. وقولهإنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } آل عمران 68 الآية. وقولهما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة } آل عمران 79 الآية. وقولهوإذ أخذ الله ميثاق النبيين } آل عمران 81 الآية. وقولهفأتوا بالتَّوراة فاتلوها } آل عمران 93 وقولهإنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } آل عمران 96، وما تخلّل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد. والباء في قوله { بالحق } للملابسة، وهي ملابسة الإخبار للمخبَر عنه، أي لما في نفس الأمر والواقع، فهذه الآيات بيّنت عقائد أهل الكتاب وفصّلت أحوالهم في الدنيا والآخرة. ومن الحقّ استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلاً من الله، ولذا قال { وما الله يريد ظلماً للعالمين } أي لا يريد أن يظلم النَّاس ولو شاء ذلك لفعله، لكنَّه وعَد بأن لا يظلم أحداً فحقّ وعدُه، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه، وإنَّما الخلاف في جواز ذلك واستحالته. وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوي الحكم، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى، وتنكير ظلماً في سياق النَّفي يدلّ على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلّق به إرادة الله، فكلّ ما يعدّ ظلماً في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى. وقولهولله ما في السماوات وما في الأرض } البقرة 284 عطف على التذييل لأنَّه إذا كان له ما في السموات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم. فلا يريد ظلمهم، وإليه ترجع الأشياء كُلّها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء. وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كلّ جملة مستقلّة الدلالة بنفسها، غير متوقّفة على غيرها، حتَّى تصلح لأن يتمثّل بها، وتستحضرها النُّفوس وتحفظها الأسماع.